
المتتبع للقصة الليبية القصيرة قد لا يدرك أن بها تواريخ كثيرة لم تذكر ولم يتطرق إليها أحد. وما ذكر من هذه التواريخ هو في الواقع شذرات هنا وهناك لم تضع لنا الصورة كاملة عن هذا المشهد الذي كانت بداياته فى الثلاثينيات ..وأحمد العنيزى هو بالتأكيد احد العلامات القصصية التي لم يشير إليها النقاد ولا الباحثين بكلمة إبان ذكرهم لبدايات القصة الليبية القصيرة ولست أدرى هنا هل كان ذلك قصور لدى من ذكر هذه البدايات أم أن القاص لم يقدم نفسه كما ينبغي ففي إشارات تأتى من بعض من كتب فى هذا الموضوع وحوله لا يأتي ذكر هذا الرجل والمنجز الذي حققه.... اذكر هنا قراءة على سبيل الاستشهاد وردت في كتاب حدود القراءة الجز الثاني والمعنون ب(( ذاكرة الكتابة في القصة والرواية الليبية )) للكاتب / إدريس المسماري الصادر عن مجلس الثقافة العام يتحدث عن القصة الليبية ويشير إلى العديد من البدايات في هذا الفن ابتداء من ((وهبي البوري)) مرورا بمجايليه في حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي وصولا إلى عبدا لقادر أبو هروس صاحب نفوس حائرة أول مجموعه قصصية ليبيه{1957}وكذلك زعيمة الباروني [1958] دونما ذكر لهذا الرجل الذي واكب تاريخ بدايات نشر إنتاجه القصصي هذا الوقت بل وقبله فأول أنتاج قصصي نشر له كان في/17/1/1955
ومن المهم إضافة هذا الكم إلى بدايات القصة الليبية القصيرة ذلك يرجع إلى سببين لكونها وافقت في الأسلوبية ونهج الكتابة ما كان يكتب في تلك الحقبة ألا وهى مرحلة الواقعية في القصة..
وكذلك لأنها تعتمد ذاكرة التسجيل الحدث والمعالم والشخوص أحيانا بغية بلورة واقع معاش يوما ما..
وما يميز قصص" أحمد محمد العنيزى" في مجموعته القصصية
أنها أخذت المنحنى التسجيلي الذي حوي تواريخ وأزمنة لمدن وشوارع في قالب حكائى لم يخرج عن الواقع إلا بنزر بسيط وربما كان هذا الأمر بديهي لاعتبارات عديدة .
أولها : إن زمن كتابة هذه القصص مابين عامي 1955ن و1968 اى في حواليالعشرة أعوام كما يؤرخ لقصصه ناقلا إلينا تراكمات وصورمتداعية
لتلك الحقبة.
وثانيها: أنه تعمد تقديم قصصه بترتيب ((كرونولوجى))2 فيما يتعلق بالترتيبالزمني للأحداث وتسلسلها المنطقي
وثالثها: وهى الاهم ماأشار اليه الكاتب فى مقدمة المجموعه "كلمة للقارىء"حيث يقول:- (( وعملت بكل ماأوتيت من قدرة على العطاء أن أعبر عماكان يحيط بي وماكان فى المجتمع الذى كان يرزح تحت وطأة الفقروالمعاناة فى السنين الغابره))3
والملفت للانتباه أن هذه القصص اعتمدت فيما اعتمدت ذاكرة تاريخية تؤسس رؤية ثاقبة لمعرفة تفاصيل تلك الحقبة التي أنتج فيها (( العنيزى)) قصصه مابين((1953و1968))...
وفى سياق المجموعة التي اعتمدت على (( عشرون نصا قصصيا )) تتراوح تواريخ نشرها مابين الاعوام (( 1955و 1968)) متنوعة فى المواضيع والحكايات التى كانت لها قواسم مشتركة كثيرة منها
*حالة الفقر والحاجة التى كان يمر بها الليبيون فى تلك الحقبه
*طرح حال السيطرة على مقاليد الامور من قبل الاجانب إبان الاحتلال الايطالى
او بعد ذلك إبان عهد الادارة البريطانية والحالة العامة التى تنسكب على البلاد من جراء هذا الاستعمار
أنه يسجل عبر قصصه ظواهر كثيرة حدثت فى تلك الحقبة وهو لايضع حلولا ولايحاول فلسفة الامور وتحميلها أكثر مما تحتمل بل لقد عمد الى تسجيل المعالم والشخوص والحالة الاجتماعية والسياسية المرتهنة بهذا الواقع الذى عاشه وكأنما هو يؤرخ قبل أن يكتب نصه القصصى الذى أراه ممتعا جدا
فى قصته (( قصور وأكواخ )) يطرح العنيزى يجاهر صوت بطل قصته بما يدور من أفكار (( ماسبب البطالة ؟ لم لا توجد تشريعات تحمى الطبقة العاملة فى البلاد؟ أين قانون الضمان الاجتماعى))4 واضعا مفارقة للمقارنه مابين الطبقات الاجتماعية فى البلاد مابعد الاستقلال (( لكم الله أيها المساكين قبور ضخمة مزخرفة وأخرى لاتكاد تظهر على سطح الارض .....عز للاغنياء وذل للفقراء قصور للاولين وأكواخ للآخرين))5..
وفى قصة ((اللافتة )) يمنحنا العنيزى خيارا للتفكير عبر بطله ] مختار[ الذى يترك الاخرين الهاجمون على عنابر التموين المحترقة والذى لايبالى بكل ذلك بل يبالى بشىء واحد فقط
(( اللافتة المكتوبة على دورة المياه )) والجملة التى كتبت على أحد المراحيض بالتحديد فحتى فى المراحيض كان هنالك فارقا بينهم كليبيين وبين الايطاليين وتلك العبارة التى كتبت على المرحاض المخصص لليبيين والتى كتبت بطريقة مستفزة أحس من خلالها بضألته وضألة شعبه ومعاملة المستعمر له
لذلك وما أن علم بانسحاب المستعمر الايطالي حتى بادر الى اقتلاع تلك اللوحة وأحرقها فى النار كأنما يشفى غليله بذلك 6
أن الامر لايقتصر على هذه التسجيلات التى قدمها لنا العنيزى على المستوى السياسى بل يعمد الى تفجير قضايا متعدده كان لها وقع اجتماعى معين فى تلك الحقبة مثل ظاهرة السفور التى سجلها بوعى المثقف من خلال قصته ((حديث المدينة)) والتى عنون بها المجموعه كلها وكذلك مواكبته لحرب التحرير فى الجزائر وكذلك أكتشاف النفط فى ليبيا وسنوات الجفاف وسنوات الفيضان ..
والملفت للانتباه أن اغلب ابطاله متأزمون بواقع واحد
(( الفقر/ البطالة / اليأس))بل أنه فى الغالب يعمد الى تحرير افكاره والادلاء بها من خلال هولاء الابطال
وبعد..
لم أجتهد فى اعطاء نصوص أحمد العنيزى أى مسحة تحليلية تخرج بالنصوص عن أطارتها التى وضعت من أجلها فى الاساس ولكننى كنت مصرا على انصاف هذا الرجل الذى أعتبره وبحق من رواد فن كتابة القصة القصير فى ليبيا بل ومن المؤسسين لهذا الفن الرائع والبديع .
هوامش
1/أنظر المجموعة (( حديث المدينة )) منشورات مجلة المؤتمر 2005
2/ كرونولوجى /من الكروتولوجيا ((chronology)) وهى مصطلح تعيين التواريخ الدقيقة للأحداث وترتيبها وفقا لتسلسل الزمن.
3/انظر مقدمة المجموعه ص6
4/قصة قصور وأكواخ ضمن المجموعه ص49
5/ قصة قصور وأكواخ ضمن المجموعه ص54
6/ قصة اللافتة ضمن المجموعه ص 163
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق