الجمعة، 18 سبتمبر 2009

الاسطورة عند ابراهيم الكونى/جزء من كتاب الوشاح الممزق









الأسطورة عند إبراهيم الكوني





نكتب دائماً في سبيل أن نٌقرأ .. ففي فعل الكتابة يكمن جمهور مفروض
" ميشال بوتور"
بحوث في الرواية الجديدة
منشورات عويدات " الطبعة الثانية ..1982 م..







أننا نتوهم أننا نفهم بعضنا .. لكننا في الحقيقة لا نتفاهم إطلاقاً
" سمير الحاج شاهين "
لحظة الأبدية / دراسة الزمن في آداب القرن العشرين-
المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت
الطبعة الأولى / 1980 م





الملفت للانتباه أن الغموض يصل أقصى غاياته أبان الدخول في عوالم الغرائبية والعجائبية والخوض في الحكايات الأسطورية داخل العمل الروائي .
ذلك بأن القارئ يستغرق بكامل وعيه مع العمل الروائي مع عملية مصاحبة هي بمثابة الاستثارة للمتلقي والتي يخرج معها بانطباعات وأسئلة قد لا تخدم الرواية على الإطلاق لأن الخوض في متاهة الأسئلة يكون بمثابة دخول مفازة للتأويل وبالذات إذا كأن هناك قواسم مشتركة تشير ولو من طرف خفي إلى تماثل تاريخي معين ما بين المتن الذي عبئت من خلاله هذه الأسطورة وما بين واقع ما..
ذلك ونحن نعلم أن الأدب بشكل عام يتحرك في إطار الاستجابات والانفعالات الإنسانية .. وهذا بالدرجة الأولى ما يجعلنا نتكئ على الأسطورة ونحاول أن نستخلص لها أفكاراً قد تعيننا في التعايش مع ما هو مطروح عند الروائي إبراهيم الكوني .
أن اعتبار أن الأسطورة تقوم على فكرة التجاوز لمفهوم الزمان والمكان وترتبط جميعاً بالمجاز الذي نراه عبوراً مدهشاً من الجسدي إلى المجرد ومن الواقعي إلي المتخيل ومن المعقول إلى اللامعقول(1) سيقودنا هذا بكل تأكيد إلى محاولة إيجاد وسائط لتأويل هذه الأساطير أو الأمكنة الأسطورية أو الحيوانات الطوطمية كرموز أسطورية تأتى في سياق المتن الروائي .
ويذهب " مالينوفسكي " إلى أن الأسطورة كانت بمثابة الدستور الاعتقادي الذي يفسر الحاضر ويؤمن المستقبل وأنها كانت تهدف فيما تهدف إلى ترسيخ عادات اجتماعية أو تدعيم سلطة عشيرة بذاتها .. ويرى ( هربرت سبنسر )صاحب فلسلفة التطور وهو من اتباع المذهب الأنثروبولوجي يرى أن الأساطير ليست سوى نصوص عبادات الأسلاف .. وقد أدلت مدارس علم النفس بدلوها واعتبرت بطل الأسطورة حالماً يخضع لتحولات أو يقوم بالخوارق .. وهذا كله ليس سوى انعكاس لرغبات وأمنيات مكبوتة تنطلق بمعزل عن رقابة الوعي .
وقد أتفق ( يونج ) مع ( فرويد) على أن الأسطورة نتاج اللاشعور ولكنه اختلف معه حين أكد ( يونج ) أنها نتاج لاشعور جمعي عاشت في لاشعور الجماعة انتعشت من خلال الفرد ومن الجدير بالانتباه أننا عادة ما نجد في الأساطير مشاعر إنسانية جياشة وأحاسيس وتصورات تطلعنا على فلسفة الإنسان في الوجود
هنا لابد لنا أن نفهم الرمز الأسطوري لأن هذا الفهم هو بمثابة شرط أساسي لفهم العمل الأدبي حتى وأن كأن هذا العمل أبان كتابته يحفل بالهوامش الشارحة لطبيعة الرمز الأسطوري ذلك لأن لهذه الأسطورة تاريخاً حافلاً نتعامل معها كحفرية حيه وهي محل عمل دائب رغم كونها تأكل بعضها بعضاً .. تتناسخ ولكن هذا التناسخ والتكرار يمكن قراءته بتفاصيلها التكوينية الأولى ولقد قامت مدارس عديدة من (يوهمر ) وحتى (مالينوفيسكي ) إلى ( ليفي شاتروس ) على مبادئ ثلاث هي .. (1) أن الأسطورة تصف حقيقة تاريخية معينة .. (2) أنها رموز لحقائق فلسفية معينة .. (3) أنها أنعاكسات لعملية طبيعية مرة بعد أخرى في صيرورة لا تتوقف , هذا عن الجوانب العلمية للأسطورة ولكن يبقى شرط جدلي نوقن بضرورته وهو أن عقلية المبدع الروائي هي نتاج تراكمي لحياة بيئية مختزلة في عقله الأوعى وسننطلق من هذه الفرضية التي أوردها إبراهيم الكوني والتي تقول (( اذا استطاع المبدع أن يستدرج الناس إلى وطنه ويقنعهم بأن يحبوا أوطانهم كما يحب هو وطنه و أهل وطنه فقد افلح في أداء نصف الواجب ))(2)
أن الكوني عبر إطروحاته الأسطورية التي لا يكاد يخلوا منها أي عمل من أعماله يطرح لنا معنى جلياً لثقافة المكان . المنشأ المتداخل في عقلية لاواعية هو ما يقودنا إلى استنتاج قريب لمعتقدات وتاريخ وثقافة المكان هذا على اعتبار أننا سنتعامل مع العادات والتقاليد والموروثات بوصفها ( قوانين ) لها قوة القانون العام …
أنه قانون المكان الذي لابد للفرد أن ينطوي تحته مادام يعيش فيه … طقوس مكانية نراها في مكان ولا نراها في آخر .. قد تتشابه في بعض الأحيان ولكنها تختلف دائماً في المضامين ..
ومن هنا سنتناول العجائبية والغرائبية كمكونات أسطورية تنتج كما قلت سابقاً نتاجاً لثقافة المكان وسنحاول الخوض في جزئيات أسطورية تكمن في ثنايا إعمال إبراهيم الكوني قياساً .. لمحاولة عرضها وتحليلها أو تأويلها للوصول إلى غايتها .

( أسطورة المكان عند ابر أهيم الكوني )





أولاً المكان الحاضر في الأسطورة :-


يقول الكفوي في تعريف المكان (3)( هو الموضع الثابت المحسوس القابل للإدراك الحاوي للشيء المستقر ) .. هذا التعريف لن ننطلق منه على اعتبار أن الروائي إبراهيم الكوني يضع في حساباته قدسية غامضة للمكان ينطلق منه ليكون المكان أحد أهم أبطاله المتوجين في أعماله الإبداعية .. وربما تستأثر الصحراء بكيانه كله حتى أنك في الغالب تجده يتعامل مع المكان وفق استراتيجية معينة يكون له من خلالها تفعيل دور المكان من خلال أدراجه كبنية باطنية للنص , وهذا يحفز بدوره عمليات الفهم التي تستثار لدى القارئ والتي يعول عليها الروائي ( يقولون ( أنت تجسد الصحراء كأنها مخلوق حي ) أقول كيف لا تكون الصحراء مخلوقاً حياً إذا كانت الصحراء هي أنا )(4) .
من هنا يمكن أن نكتشف أن بعض الأماكن التي يصيغها الكوني ويعيد بناء لحمتها كمكان أسطوري .. تورد دائما بشكل غائم . من حيث التفاصيل والمعالم ضارباً عرض الحائط بالعلاقة بين ما هو كائن وما هو ممكن ويضل المكان بالكامل يحفل بصورة العجائبية ( لو وجدنا روائياً يجعل من بطله شخصاً منعزلاً في الصحراء يناجي الجبال والصخور والرياح فأنه يكون قد جعل من هذه الأشياء أبطالاً وشخوصاً يصنعون مع البطل الإنساني مجتمع صغير وأن بدا عجيباً بهذه الصورة )(5)
من هنا كانت إستراتيجية المكان عند الكوني واضحة في بنيتها غائمة في تفاصيلها ومكوناتها أن أول مكان أسطوري يتعرض له الكوني بشكل كبير هو البئر )(6) كمؤسسة متكاملة التفاصيل حتى في أدقها .. بل لقد شكلت لحمة المكان الأسطوري تأثيرها المطلوب عند القارئ حيث شكلت حركة المكان (( حركة دائرية )) ومن هنا كان المكان في مجمله يتحكم في حركة السرد وحركة السارد معاً .. وربما يكون التأثير عميقاً ويكون لهذا أثره في إنتاج بنية المكان المتخيل .. ليس في حركة السرد فقط و إنما في حركة المتلقي وفي إدراكه التخيلي للمكان ..
هذا المكان الذي عول عليه الكوني كثيراً لما له من تأثير في إبراز تأسيس كيان القبيلة والتي احتلت سيرة كسوفها جل المتن الحكائي ..
ويقابلنا البئر في رباعية الخسوف بسيماء الأسطورة منذ البداية يتكئ عليها الروائي ليصنع منه بعداً معرفياً بكامل تفاصيله من خلال تصاعد دائري يذكي الأسطورة.
وهو يعطى منحنى لدلالات مهمة لمرحلتي ما قبل الخسوف وما بعده ..
أن التراكمات الأسطورية لحادثة تأسيس البئر كأول مؤسسة أسطورية مناهضة للعطش والذي أوجدها الكوني ويتعامل معها في إطار الفكر الأسطوري هذا الفكر الذي يصنع أحد أهم مبادئه إنكار ظاهرة الموت والاندثار ..
ويؤكد من خلال تجلياته صيرورة الحياة .. وعند العودة إلى النسق الروائي لتحديد مكان البئر والذي يقول فيه السارد ( بل وتؤكد بعض الأساطير أنه مركز الدنيا .. واصل الكون ومصدر الحياة في الزمان القديم ولولاها لأندثر الناس والحيوانات في الصحراء منذ قرون ) (7)
أنه يقرن تكوين ( بئر اطلانتس ) بحكاية ( تانسس ) واخيها ( وانس ) رغم أنه ادخل تعديل في هذه الأسطورة في اسم شقيق تأنس حيث يسميه ( اطلانتس ) ولست ادري هل لهذا علاقة قياسية بما يسوقه الكوني حول قارة ( اطلانتس ) الغارقة والتي يلمح الكوني إلى أنها وجدت ذات يوم في الصحراء .. لأنه يسوق الاسم من خلال أسطورة أخرى مكملة ساقها الكوني في بداية قصة جرعة دم ( لم يعد وأنس الصغير يحتمل العطش فأخبر أخته تأنس كيف نسى احجوبته حيث كأن يرعى قطيع الغزلان .. فبكت تأنس ورجته إلا يشرب من بول الغزال .. لكن وأنس لم يعد يحتمل . فذهب واختطف احجبته وشرب من بول الغزال بعد أن القمة حجراً .. فعاد إلى أخته تأنس وقد تحول نصفه الأعلى إلى غزال وأحجبته معلقة في قرنيه )
ولأن السياق الأسطوري من حيث المنشأ ( قبائل الطوارق ) ومن حيث الروائي ( إبراهيم الكوني ) وبعيداً عن الخوض في التحولات إلى أنصاف حيوانات وهي أساطير تملأ ذاكرة شعوب العالم يعود اهتمامنا بهذه الأسطورة بحكاية تأنس وأخيها وأنس لما لها من علاقة بتأسيس البئر مع ملاحظة أخرى أن تأنس هي ( تأنيت ) .. أو ( تنت ) أو (تأنس ) وهي مسميات لآلهة الحب والخصوبة عند قدماء الليبيين والمرتبطة شرطياً بالقمر رمزاً لها .
وعند موت اطلانتس في إحدى رحلاته التي كان يخرج فيها للصيد وقفت تأنس أمام جثة أخيها وفاضت الامها في بكائيتها الشهيرة ( أحببتك كما لم تحبك أمك .. )(8) إلى أن تختتم هذه البكائية (( تباً لك أيتها الصحراء الكبرى ما أقساك .. ولكن اقسم إنني سوف أنتقم لك من الصحراء أيضاً فأهناً في نومك الأبدي لأنه لن يهدأ لي بال حتى تغمر المياه رفاتك في القبر ))(9)
وتتوالى الحكاية لتخبرنا أنه عن طريق المنجمين والعرافين استطاعت تأنس أن توفي بعهدها ووعدها بقهر الصحراء مع نبؤة ضُمنت داخل الأسطورة .. تشير إلى أن المياه سوف تبقى ما بقت تأنس على قيد الحياة لكنها ستختفي باختفاء تأنس من الوجود ((وعند موت تأنس حدثت حركة غريبة في نظام النجوم وقادت الكواكب الأخرى حملة ضد القمر وحدث ما يسمى بالخسوف لأول مرة .. استمر الصراع وهبت الأعاصير والعواصف المحملة بالغبار وعادت الصحراء تزحف على الصحراء وبقى البئر الأسطوري رمزاً بائساً لهذه الحضارة))(10)
هذه الحضارة التي يعنيها الكوني هي حضارة اتلأنتيدا الغارقة في الرمال في جوف الأرض بعد طوفان الرمال الرهيب .. وهذه كما قلت سابقاً إشارة ضمنية لقارة اطلأنتس الغارقة والتي تتضارب الآراء حول مكانها أن الكوني يقدم لنا رؤية أخرى من خلال هذا الطرح للقمر أن الخسوف للقمر يعني اختفاء الخصب وإيذاناً بانتهاء المجد فهو لم يقرن هذا الخسوف بسيرة التيه التي اتخذتها القبيلة نهجاً بل لقد ربط ذلك باختفاء حضارة بأكملها والبئر الذي هو مركز إنعاش حضاري مثله ذات يوم إلا أنه مثل في الجانب الآخر مرادفاً للاندثار .. سبب الوجود سبب الفناء أيضاً , وأن هذا القمر الذي هو معتقد ورمزاً للخصوبة والحب إشاراته في كل خسوف ليؤكد خسوف مجد القبيلة. (11)
أن اللحمة الأساسية في هذه الأسطورة قد استفاد منها الروائي بشكل رائع ذلك أنه أرخ لها انتقلت من أسطورة تعتمد المشافهة وسيلة لحفظها إلى أسطورة ضمنت متن روائياً .. كذلك أوجد من خلال السرد الاستردادي نوع من المأسوية لسيرة هذه القبيلة والتي هي بطل الرواية الفعلي .. والروائي نفسه استفاد من هذه الأسطورة وقدمها لنا في أماكن متباينة من أعماله لاحقاً .. ولكن من الجلي للقارئ أنه قدمها في هذه الرواية بسرد خجول .. دونما تدخل منه إذا استثنينا إيجاد مبرر لتغيير الاسم من وأنس إلى اطلأنتس.. ذلك لأن الروائي استفاد لاحقاً من سبك الأساطير القديمة داخل أعماله مضيفاً بعض الغموض والرهبة إليها متدخلاً في تواردها مضيفاً لها أشياء ومغيباً أشياء أخرى فهو يعلق أمال كبيرة على تعليق هذه الأساطير عبر رواياته العديدة ..



( ثانياً / المكان الغائب عند الكوني " وأو " المكان الغائب )




أن التناول الأسطوري لهذا المكان يأتي متماثلاًُ من حيث كونه مرثية أخرى فهو يسميها الضائعة وتارة أخرى يسميها " السماء " وتارة يسميها الموعودة .. ولكن الملفت للانتباه أن هنالك ثوابت عديدة تقرن ما بين المكان الأول البئر والمكان الثاني " وأو" أهمها :-
1-أن المكان الأول كأن حاضرً دائماً وفي وجوده تكمن خيوط المرثية بينما كأن المكان الثاني غائباً بشكل دائم وكأن غيابه هو سر المرثية .
2-أن التناول الروائي للمكان الأول البئر جاء تناولاً بسيطاً لا تعقيد فيه حيث أورد الروائي الأسطورة كما هي .. بينما جاء المكان الغائب بشكل غائم ليمثل أشياء كثيرة فهو تارة يعني السكينة والهدوء .. وتارة يعنى الحرية والانعتاق وتارة أخرى بمثابة الجنة الموعودة .
3- أن القاسم المشترك الأخير بين المكانين أنهما يرويان سيرة تيه الإنسان فالأول يروى سيرة تيه قبيلة أما الثاني فيروى سيرة تيه الإنسان وهنا يعطي المكان الثاني دفعاً اكثر شمولية بالمقارنة بالمكان الأول ..
لكنني اجزم أن الروائي إبراهيم الكوني قد استفاد كثيراً من تجربته الأولى مع الأسطورة المكانية " البئر " لأن ذلك حفزه على المزيد من البحث والإيغال في سبك الأساطير التي تمكن من حشدها في رواياته العديدة .. متعمداً استراتيجية جديدة اكثر غموضاً وإيغال في التأويل .. لكنه وفي عرضه لهذا المكان الغائب يطرح خصوصية لصيقة بمعاناة الصحراوي منذ التيه الأول هذه الخصوصية تمثلت في ( أنهي ) سفر الصحراوي الضائع (( متابعاً رحلة قديمة بدأها جده الأول عندما طرد من " وأو " فكتب عليه وعلى ذريته المنفي الأبدي))(12)
أنه هنا يعني ( وأو السماء ) الجنة الموعودة ويقرنها بسفر ضائع يكاد يكون لصيقاً بالنواميس السماوية " أنهي سفر الصحراء الضائع وضع في " وأو " الضائعة وإضاعة الجد الأول عقب خروجه في رحلة التيه "(13)
ويشير الكوني عبر تناولاته العديدة للسفر الضائع وتيه الإنسان كقرينتان متلازمتان كلاهما يعني السعادة والسكينة والهدوء وهاتان الإشارتان تقودنا إلى أن " وأو " هي لصيقة بالجنة الفردوس وأنهي ما هو إلا مجموع الوصايا الإلهية عامة والتي نزلت على الإنسان في حقبات متعددة ( وهم الذين قاموا بنقل النصوص الحجرية إلى لغة الناس مما ساعد على زرع السكينة في النفوس فساد التفاهم والسلام وتطهرت السلالة الصحراوية من العنف والشر )) (14)
وهنا كانت الإشارة واضحة على أن هذه النواميس التي تلقاها الإنسان هي في مجملها دعوة إلى السكينة والسلام والهدوء حتى تحولت الأرض بتطبيقها إلى جنة أخرى..
(( ولا أحد يعرف كم استغرقت هذه الحقبة الذهبية التي تحصن فيها الناس بالسكينة فوجدوا أنهم قد أقاموا " وأو " أخرى في الصحراء دون أن يدروا )) (15)
فواو هنا والتي جاء ت لصيقة بالجنة الموعودة أو وأو السماء كما يسميها الروائي في اغلب الأحيان والتي جاء الخروج منها كقصاص أنزل بالإنسان أو بالأحرى أول قصاص هو النفي نزل بالإنسان حال طرده من هذه الجنة وحال فقد الملجأ الأ من " وأو" خرج الإنسان يحمل في يده مجموع الوصايا والنواميس الإلهية التي كانت بديلاً عن الجنة الموعودة والتي بموجبها يمكن أن يصعد الإنسان إلى وأو السماء كجزاء الهي عادل ((كأن النفي أول قصاص أصاب الصحراوي بعد أن نسى وفقد الصلة بالنصوص الإلهية الأصلية )) (16)
وعلى الرغم أن المواربة هي ما يجعل المكان غائم أو هو أشبه بالأمنية التي تراود الإنسان إلا أن الكوني يجيد التلاعب بهذه المفردة المكانية التي غلفها بغلاف أسطوري إمعاناً في أن تأويل هذا المكان وفق منغومة ثقافية نحملها في داخلنا إلا أن الروائي يصر على أن " وأو " هي المكان بعينه الذي في دواخلنا (( أخيراً ستفتح في وجه أبواب المستحيل ليدخل مملكة سافر في إثرها الصحراويين منذ أن خرجوا إلى المنفي ونزلوا الصحراء .. أخيراً سيرى ما لم تره عين ويسمع ما لم تسمعه أذن .. ويتلذذ بالخاطر الذي لم يخطر على بال بشر)) (17)
هذه الإشارة جاءت متوافقة مع دواخلنا عن الجنة التي وعد الله المؤمنين بها وليس مع أي مكان آخر فوصفها بفيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. هذه الصفات أوردها ( رب العزة ) في وصفه لجنة الفردوس ..
أما فيما يتعلق بالتأويل حول هذا المكان الغائب والغائم والذي أشرت سابقاً إلى إمكانية تأويله وفق ضائقة معينة لدى المتلقي .. فهو تارة يدعوها السكينة والهدوء .. وتارة أخرى يقرنها بالحرية والانعتاق .. وهي قريبة إلى الإنسان اقرب مما يتصور ..
(( يرى أن " وأو" التي افني العمر وبدد الحياة بحثاً عنها هي اقرب من حبل الوريد))(18) .. وهذه المعاني اشتملت على بعد أنسأني شمولي يعني الإنسان في كل مكان وزمان





( الحيوان في الأسطورة عن الكوني )



الأرنب الشؤم



تقول الأسطورة " أن القمر أرسل ذات يوم رسولاً إلى الناس فأختار الأرنب لتبلغهم رسالته إليهم وتقول لهم / كما أن القمر يموت ويحيا فأنتم كذلك سوف تموتون وتحيون .. لكن الأرنب أبلغت الرسالة خطاء إلى الناس أما سهواً أو تعمداً فقد قالت لهم " أن القمر يموت ويحيا أما أنتم فسوف تموتون ولا تحيون بعد ذلك .. ولما عادت الأرنب إلى القمر طلب منها أن تعيد الرسالة ولما أعادت الرسالة الخاطئة ثارت ثورة القمر ولطم الأرنب على وجهها فانشقت شفتها العليا أخذت تعدوا في سرعة .. ولهذا ترفض بعض القبائل أن تأكل لحم الأرنب لأنها هي التي تسببت في محنة الإنسان )) (19)
هذه الأسطورة العالمية التي تحفظها جل شعوب الأرض .. والتي تصور لنا جوانب المعاناة والمحنة الإنسانية .. احتفظت بها عقلية (الطارقي الروائي) ونقلتها لنا عبر الرواية .. في اكثر من موضع كلمحة يتشأم منها الإنسان كرمز جالب للمحنة .. فهم يتطيروا منها حتى أن اسمها محرم نطقه صراحة ووضوح وأنه لابد من تمويه الاسم برمز فقط " تيزارات " أو هكذا يُنطق لتلك المخلوقة المملؤة بالشر (( ضحايا أنزلت على روؤسهم اللعنة منذ أن وسوس لها الشر ونقلت لهم بشارة " امغار " معكوسة يوم استثارته بفعلها القبيح فناله بالمسعر في خطمها ..انشقت الشفة إلى ضلفتين .. ففرت من (اغرم نودادن ) لتنقل دمغة الزوال إلى مخلوق الصحراء .. نال الإنسان ختم اللعنة ))(20)
نتوقف لنسترد سيرة الأسطورة .. لنكتشف أن هناك قواسم مشتركة عديدة ما بين الأسطورة المروية وبين الأسطورة الواردة في المتن الروائي أن الأرنب هنا هي رمز التطير والتشاؤم عند الإنسان حسب الأسطورة ولو محصنا الأمر قليلاً سنكتشف أن هناك تطابق ما بين المروي الشفهي للأسطورة بين ما يروى عالمياً وبين ما يروى في الصحراء عند قبائل الطوارق .. كذلك أن الإله القمر الوارد في الأسطورة هو نفسه صاحب المعتقد الأكبر قديماً الآلهة تأنيت المعبودة القديمة في الصحراء والإشارة هنا جاءت في الرواية إلى كلمة ( آمغار ) وهي لفظة في لغة الطوارق تعني ( الزعيم – الجد- الكبير ) هذا التطابق ما بين الإلهين والتطابق في الأسطورة بشكل حرفي يجعلنا نقف موقف المتسائل عن جدوى إيرادها في المتن الروائي خاصة وأنها لم تخدم الحدث بل قدمت كمعتقد من المعتقدات الغامضة والتي تعج بها روايات إبراهيم الكوني .. أن اللحمة الأساسية هي مبدأ التشاؤم والتطير الذي تخبرنا به الأساطير على الرغم من أن هناك جانب آخر من هذه المعتقدات يرى أن الأرنب تأتي كتميمة ضد السحر والعين والجن يشير إلى ذلك النويري في كتابه " نهاية الأرب " حيث يقول ( أن العرب يعلقون على أنفسهم كعب الأرنب ويقولون أن من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر .. ذلك لأن الجن تهرب من الأرنب لأنها ليست من مطايا الجن لأنها تحيض )(21)
ويورد الكوني ذلك أيضاً وبحذافيره (( شرب دم النحر وعلق اليد في الرقبة))(22) وهي بشارة إلى أن تعليق يد الأرنب في الرقبة تميمة حسنة لطرد الجن وهذه الحالات هي حالات مؤامة مع المتن الروائي والأساطير المستوردة إليه بنية الصيغة الإنسانية كما شرت سابقاً والتي تحقق للروائي نوع من الانتشار العالمي …





الحية .. الدهاء .. والحيلة ..



ربما كانت الأوضح في التمثيل الروائي هي الحية على اعتبار أن الكوني جاء بها كرمزً آخر رمز مقدساً حفلت به الكتب السماوية ورمز حفلت به الأساطير والحكايات الشفهية والتي تشير بأكملها إلى قصة الخديعة التي تعرض لها الإنسان وأخرجته من الجنة ..
(( أن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لأدم وحواء فمنعه الخزنة من ذلك .. فذهب إلى الطاووس وكأن سيد طيور الجنة يتحايل عليه ليدخله في الجنة فدله على الحية لأنها اقدر على ذلك وكانت من خزان الجنة .. فأدخلته في فمها ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون .. و أدخلته الجنة ))(23)
وفي الكتاب المقدس ( وكانت الحية أحيل جميع الحيوانات البرية التي عملها الرب الإله )) (24)
كما أن أوضح إشارة إنجيلية لتسمية الحية بالشيطان ( أنه التنين العظيم الحية القديمة المدعوة إبليس , الشيطان الذي يظل العالم ) (25)
أن أوضح تعبير حول الحية يورده العقاد في كتابه إبليس حيث يقول ( أن الإنسان أول في بداية ظهور فكرة الشر أن يجد له رمزاً طبيعياً لم يكن أمامه في مثل هذه الخطوة مثل على الشر الخبيث الذي يضمر السوء ويتواري عن النظر اقرب إلى الحس والخيال من الحية ولم يكن في وسعه أن يتوهم شيئاً سواها ولهذا بقيت الحية مقترنة بقوة الشر حقيقةً ورمزاً ) (26)
هذه الإشارات وغيرها اتكأ عليها الروائي ليبرز منظومة الشر الثنائية " الشيطان / الحية " والكوني في غواية أبطاله عبر رواياته المتعددة استغل هذه المتراكمات الملتصقة بالحية محاولاً استغلالها استغلالاً حسن محولاً كل هذه التراكمات إلى تواترات أسطورية مملؤة بالغموض ومنتهية بتأويلات لاتنتهي ..
(( تخفي وانتهيط في بدن الحية وأنطلق إلى تارات تسلق القمم العموية الملساء بأعجوبة لا يقدر على إنجازها إلا من تخفي في بدن حية )) (27)
وعلى اغلب الحكايات تجمع على أن للحية دوراً كبيراً في غواية الإنسان و إخراجه من الجنة حيث يعود الثعلبي ليصور لنا العقاب الإلهي الذي أنزله الله بالحية ويقول (( أن الله قد عاقب الحية بخمسة أشياء وهي (قطع قوائمها وامشائها على بطنها . مسخ صورتها إلى شكلها الحالي .. جعل غذائها التراب .. جعلها تموت كل شتاء .. جعلها عدوة لبنى آدم وهم أعدائها يقتلونها حيما يروها في الحال ))(28)
أن الروائي يعمد إلى هذه الحكايات مستغلاً لها حيث يصور لنا أن عملية قطع القوائم جاءت من الحية وليس كعقاب بل كصفقة جاءت مع الخنفس (( ابتسمت وهي تستعيد سيرة الصفقة فعندما أغوت أثير الأرض وقادته إلى الشجرة اللئيمة أصابتها الأم بالعماء جزاء لها وكأن الخنفس الأبلق يمشى على أربعة ويتباهي ببصره الذي يخترق الظلمات ))(29)
(( تقدمت منه أقنعته بصفقة أضحكت الأجيال .. أعطته رجليها مقابل عينيه))(30)
أنه يصورها في مكان آخر بصفتها الدنيوية كحيوان من حيوانات الأرض التي لا غموض فيها (( من زاوية الخباء تسللت الحية أقبلت يسبقها فحيحاً شره مبهماً كريه .. تتلوى كحسناء لعوب ))(31)
وهذا التصوير العادي جاء قبل كتابة رواية " السحرة "(32) … التي عجت بحكايات الحية الغامضة في الخلق وفي السرد (( بطلت التميمة فبلعت الحية لساناً داعبته به يوماً .. وأخرجت بدل اللسان الناعم ناباً شرساً محقوناً بالسم الزعاف )(33)
وعلى ذلك فقد رسخت الحية التي سرعان ما يقرنها مع ثنائية أخرى متواترة في أفكار الروائي مع المرأة .. حيث يقرن في الغالب الحية بالحسناء وكذلك الحسناء بالحية بعد أن عبئناً حتى الثمالة بثنائية الحية الشيطان ليصبح الثالوث الكريه الذي حشد له الكوني كثيراً عبر رواياته هو ثالوث (( الحية / الشيطان / الحسناء )) قرائن جاءت بالفاجعة على الإنسان لتدخله عالم الغواية والخديعة .. عالم الضياع الذي يحتفي به الكوني في مرثياته المتعددة والتي انتقلت من مرثيات لقبيلة ما أو شخوصاً ما عاشوا في وجدانه كروائي إلى مرثيات إنسانية عالمية ترتقي لأن تعم العالم بأكمله سعياً منه نحو انتشاراً عالمي .

ثنائية التضاد
الله . . الشيطان
الزعيم . . وانتهيط




تأسيساً على ما جاء في السابق سننطلق لنمحص ثنائية أوجدها إبراهيم الكوني في رواياته العديدة .. هذه الثنائية المتضادة دوماً والتي شكلت في جوانبها تضاد ( الخير / الشر ) الصراع ما بين الهداية والغواية والذي أنطلق من عقاله منذ بدء الخليقة حيث كأن الشيطان العدو الأزلي لإنسان منذ أن وجد .. لكن الروائي الذي امتلأ حتى الثمالة بهذه الثنائية المتناقضة أرادها ثنائية إنسانية وأوجد لها شخصية وانتهيط " صاحب الأتان " حسب لغة (تماهق ) حيث يصوره في رواياته بصاحب الكيد أو صاحب المكر لكنه لا يتناسى الصيغ المقدسة والقصص المعروفة عنه في الكتب السماوية كافة ( قالت الأجيال أن القبائل أطلقت اسم وانتهيط على صاحب الانتقام ولقبته أمم أخرى بصاحب الكيد وامتدح بطولته أقوام وهجته سلالات أخرى في أشعار الملاحم بسبب الدهاء واللؤم )(34)
وفي هذا سيكون الشيطان الذي نعرفه جميعاً هو المقصود بهذه الصفات والذي سبب الغواية الأولى للإنسان وسجل له أول قسماً للغواية .. وكأن سبباً في طرده من الجنة وخروجه في رحلة التيه .. وفي رواية السحرة بجزئيها الأول والثاني يحتل وانتهيط جل المتن الروائي في صراعه مع أبطال الرواية (( بورو - جبارين )) أو فيما يحكى عنه من حكايات حول صراعه الأزلي مع الزعيم وذكر الخلاف بينهما والتهديد والوعيد الذي ساقه الزعيم على اتباعه ( إذ خدع أحدكم من وانتهيط وجاءني يشتكي .. فلا سلوى له عندي ولا مواساة وإنما هو العذاب المبين )(35)
وهذا التهديد هو نفسه الوعيد الذي قاله رب العزة لعبادة في حالة غواية إبليس لهم . أنه يورد قصة الغواية بشكلها الأسطوري غواية (مندام )(36) أو" آدم" على يد وانتهيط مثيراً في الجانب الآخر أن الأسطورة تقول أن الأرض هي التي خلقت مندام الدمية لكن الزعيم أي الله نفخ فيه من روحه واصطفاه في الأعالي وأن الأرض حزنت كثيراً على دميتها فاستعانت بوانتهيط لإرجاع الدمية ( قال وانتهيط " أنت لا تعرفين حيل الزعيم يا أرضى الجليلة . لقد نفخ في الدمية من نفسه أعطاها من نفسه فصارت تمشى وراءه وتدب على قدمين )(37)
وتتوالى الحكاية حول قصة الغواية الأولى ( قال وانتهيط " أستطيع أن استرجعها من المملكة .. لكنني لا أستطيع أن ادخل الحرم )(38) .. هنا نتأكد أن الإشارة واضحة بين ما هو سماوي مقدس وبين الأسطورة حيث أن الشيطان قد طُرد قبل أن يسكن أدم الجنة وكذلك حٌرم عليه الدخول إلى الجنة .. ( نكس وانتهيط رأسه واعترف لا اخفي عليك أنى اختلفت يوماً مع الزعيم فطردني واصدر أمره الجائر إلى المردة فحرموا علي دخول حرم القمم )(39) … وتتوالى الحكاية المؤسطرة لتخبرنا أن وانتهيط تخفي في جسد الحية وصعد إلى الحرم لغواية (( الدمية . مندام . أدم ) ( تخفي وانتهيط في بدن الحية وأنطلق إلى " تارات " تسلق القمم العمودية الملساء بأعجوبة لا يقدر على إنجازها إلا من تخفي في بدن الحية )(40)
ومن هنا جاءت الخديعة والغواية للإنسان الذي حاقت به اللعنة وهبط من الملكوت ليبدأ رحلته المضنية الطويلة مع تيهاً لا حدود له .. وهذه القصص تقصها علينا الكتب السماوية موضحة العلاقة المتضادة ما بين الإنسان والشيطان وما بين الله والشيطان ثنائية صراع الخير والشر وثنائية الهدايا والظلال .. والإشارات السماوية واضحة في كل الكتب المقدسة حول هذا الموضوع ( وقال لأدم : لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك )(41)
( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين )(42)
أن ملامح التناص هنا تقترب من المقدس والذي يأخذ إبراهيم الكوني بجل ما جاء فيه ليؤسطر هذه القصص وقد وضح ملامح التناص ما بين المقدس والأسطورة محاولاً أن يقّرب مغزى العمل للقارئ لكنه في طرفٍ آخر يشير إشارة أخرى حول شخصية وانتهيط صاحب الأتان الذي تخبرنا عنه الكتب السماوية على أنه يحمل ملامح شخصية " المسيح الدجال " الذي يأتي في آخر الزمان ليفتن الناس عن دينهم مقابل عبادته (( يأتي إلى الصحراء ممتطياً حمارة بيضاء يلوح للخلق بالمقتنيات اللماعة التي لها بريق التبر كي يسحر الناس ويأخذهم بالبريق فيتدافع الأغبياء وتركض وراءه الأجيال .. تجرى وراءه الأمم وتتتبعه القبائل مأخوذة بالبريق مسحورة بالتبر إلى أن يرميهم في الهاوية )(43)
هنا يختلف التناص مابين الشخصية الأولى " الشيطان وانتهيط " والشخصية الثانية " المسيح الدجال " الذي تخبرنا عنه المرويات الدينية بحكايات كثيرة حول ظهوره .. على الرغم أن الاثنان يشتركان في قاسم مشترك واحد وهو غواية البشر .. لكنني أتسأل هنا حول المساس بالمقدس ومحاولة اسطرته وفق استراتيجيا تجعل من رب العزة " الزعيم " مجرد شخصا عادياً يمرض, يحارب , يقاتل , بل ويهزم في بعض الأحيان أنه هنا يجرده من القدسية ويصبغ عليه صبغات لا تنطبق الا على بشر فاٍنين مستعيداً أساطيراً وثنية قديمة حفلت بها قبائل الصحراء ..
وهنا يكمن السؤال .. ماذا أراد الروائي من ذلك .. ؟
أن اسطرة المقدس وجعله لحمة عملية من وراء فكرة أنطلق منها الروائي متراساً تقول هذه الفكرة " أن من حق الروائى أن يحتفي بتمزيق وشاح التاريخ والاتكاءات على تهميشات لا حصر لها من الكتب المقدسة فيكل رواياته واضعاً نصب عينيه خيار الانتشار .. فهو لم يأتي بأسطورة غير متداولة عالمياً أو معروفة ولها انتشارها العالمي .. وبالتالي يكون لازماً أن نتأكد من كل ما أوردناه سابقاً أن الكوني يتعمد تأريخ أساطير الصحراء من حكايات شفهية موغلة في الوثنية إلى متن أسطوري مدون تحفل به رواياته وكتبه , نعود إلى " (مالينوفسكي ) الذي يوضح في أحد أبحاثه حقيقة تقول ( سوف نسير في اتجاهين يقرباننا من حياة الشعب الذي نقوم بدراسته الاتجاه الأول .. أن نستعرض حياة الأهالي من خلال عرضنا لأفكارهم وسحرهم وفنهم وعلمهم .. أما الاتجاه الثاني فهو أن نظل على اتصال بالأحياء لكي نحتفظ أمام أعيننا بصورة واضحة لمكان المشهد وزمانه وبالمشهد نفسه )
هذا التوضيح سيقودنا إلى خصائص مهمة لروايات الكوني
· أن الكوني لا يعبأ بالتاريخ كمتن يحتفي به .. بل يجعله أداة طيعة يلونها كيفما شاء
(( التاريخ في يد الروائي أداة .. لأن الطبيعة الإنسانية هي موضوعه وليس أحداث التاريخ )(44)
· أن الكوني مهموماً بجمع شتات سير وأساطير قبائل الطوارق كمحاولة جادة منه لاستثمار أعماله الروائية كنوع من تدوين هذه المأثورات والأساطير عبر رواياته وأعماله الأدبية .
· أن الاتكاء على هذه الأساطير وإعادة صياغتها بما يتناسب مع السير الملحمي للأساطير والحكايات الشعبية العالمية جاء سعياً منه لتعميم أنساني يفسح عن ذلك سبباً واضحاً لانتشار كبير يراهن هو عليه .. انتشاراً عالمي كان جديراً بالكوني والكوني جديراً به ..
· أن الكوني خرج من إطار الرواية الليبية الخصوصية بهذا التسجيل لتأخذ رواياته منحناً آخر بعيداً عن تأسيس حقيقي لرواية ليبية .
وبعد.. فهذا الغموض الذي جعله الكوني نبراساً في أعماله والذي مرر من خلاله أيدلوجيته الخاصة والتي حتماً لابد أن تقع على مساس مع تصورات وأيدلوجيات مغايرة أثرت على الرواية لديه حتى تحولت رواياته إلى روايات ذات طابع منولوجي واضح تعمده الكوني لكي يهرب من التبشيرية والخطاب الدعائي ومن خلال هذا الهروب استحدث الكوني تقوية الوسائل الفنية التمويهية وربما يبرز أحد أهم هذه الوسائل التمويهية التي استغلها الكوني في السياق الروائي وهي الطاقات الشعرية الكامنة في أعماله الإبداعية والتي جاءت لجلب انتباه القارئ .. هنا تكمن خاصية اللغة الشعرية في الخطاب الروائي والتي جاءت تتويجاً لإرهاصات مهمة عّبر من خلالها إبراهيم الكوني عن آراءه ومررها كيفما شاء له التمرير .












" هوامش "




1-
محمد إقبال عروى / الأسطورة " مجلة عالم الفكر " المجلد السابع عشر العدد الرابع
2-
الناموس.. إبراهيم الكوني / ص 72
3-
الكفوي / كتاب الكليات
4-
الناموس .. إبراهيم الكوني ص 111
5-
د. مصطفي الضبع .. / استراتيجية المكان "كتابات نقدية " ص 130
6-
أنظر .. رباعية الخسوف للروائي إبراهيم الكوني وبالتحديد إلى الجزء الأول من هذه الرباعية ( البئر )
7 -
الخسوف .. الجزء الأول البئر .. ص46
8-
نفسه ص54
9-
نفسه ص54
10-
نفسه 57
11-
أنظر الخسوف بين هم الرواية والروائي
12-
ديوان النثر البري .. إبراهيم الكوني / ص 7
13-
نفسه ص7
14-
نفسه ص8
15-
نفسه ص8
16-
نفسه ص11
17-
رواية السحرة .. إبراهيم الكوني .. الجزء الأول ص533
18-
رواية السحرة .. إبراهيم الكوني … الجزء الأول ص 517
19-
الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق د. نبيلة إبراهيم ص259
20-
السحرة .. الجزء الثاني .. ص 104 –105
21-
النويري /نهاية الأرب .. الجزء الثالث ص 123 وما بعدها.
22-
رواية السحرة .. الجزء الثاني ص 123
23-
الثعالبي.. النيسابوري / قصص الأنبياء المسمى ( عرائس المجالس) من ص 30 إلى ص 34
24-
سفر التكوين .. الإصحاح الثالث
25-
الإصحاح الثاني عشر .. من أعمال الرسل
26-
العقاد .. ( ابليس ) كتاب الهلال عدد (92) ص89
27-
رواية السحرة .. الجزء الأول ص 362
28-
الثعالبي النيسابوري / عرائس المجالس ص 33 .. ص34
29-
السحرة .. الجزء الأول ص 252
30-
نفسه ص 252
31-
خريف الدرويش.. إبراهيم الكوني .. ص 46
32-
نلاحظ هنا أن التناول الأسطوري يأتي بشكل مكثف كلما توغل الكاتب في كتابة روايات
33-
جديدة مستفيداً من أساطيره التي أوردها سابقاً . نلاحظ مثلاً أن خريف الدرويش كتبت قبل رواية السحرة بزمن
34-
" خريف الدرويش " ص 49
35-
الفزاعة .. إبراهيم الكوني ص 172
36-
السحرة .. الجزء الأول ص 72
37-
أنظر رواية المجوس بجزئيها الأول والثاني لإبراهيم الكوني وكذلك رواية السحرة بجزئيها الأول والثاني
38-
رواية السحرة .. الجزء الأول ص 360
39-
نفسه ص 360
40-
نفسه ص360
41-
نفسه ص362
42-
سفر التكوين ..
43-
سورة الأعراف الآية 24
44-
السحرة .. الجزء الأول ص 46
45-
الناموس .. إبراهيم الكوني ص 63
46-
الأسطورة والتراث د. سيد القني
47-
الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق.. د. نبيلة إبراهيم عن مكتبة الشباب
48-
استراتيجية المكان د. مصطفي الضبع .. الهيئة العامة لقصور الثقافة .. كتابات نقدية 1979 ف
49-
قراءة الرواية – مدخل إلى تقنيات التفسير ( روجر .ب. هنكل ) ترجمة وتعليق د. صلاح رزق عن دار الأدب 1995 ف
للتوسع .. أنظر إلى :-
(1)- مجموعة أعمال الروائي إبراهيم الكوني الإبداعية
(2)- النقد الروائي والأيديولوجيا د. حميد لحمداني .. عن المركز الثقافي العربي بيروت





ليست هناك تعليقات: